في محطة القطار كنت انتظر وعيوني شاردة في الناس وهم في عجلة من أمرهم ذهاباً وإياباً،كأنهم يسابقون عقارب الساعة . فجأة أحسست بيد تمتد نحوي يتبعها صوت امراة تتكلم بلكنة فرنسية. طلبت مني نقودا فمنحتها، الا انها تمادت في طلبها فرغبت بالمزيد والمزيد بذريعة ضرورة السفر الى مدينة أخرى كانت تقصدها .
استغربت تصرفها…خاصة وأنها كانت سيدة أنيقة فبالرغم من التضاريس التي حُفرت على وجهها إلا أنها كانت تحتفظ بعنفوان المرأة الجميلة والمثيرة ولغة السيدة المخملية التي تتقن اللغة الفرنسية وتتكلمها بطلاقة الفرنسيات. إنما كيف وهي كل هذا تمد يدها للآخرين وتطلب المال من عابري السبيل !!
حدقت بها وتأملتها طويلاً فوجدت أن ملبسها لا ينتمي لهذا الزمن المتطور والمواكب لصيحات الموضة، فكل قطعة من ملابسها تحمل شكلاً وتبدو بألوان مختلفة .
انها بمظهرها العام تحمل صيحة تليدة من صيحات الموضة لم يعد لها مكان في هذا العصر وفي هذا الزمن، إلا أن كل ما فيها كان يدلل على انتماء سابق لمجتمع راقٍ كما كان يدلل على أنها كانت ذات يوم سيدة مجتمع من طراز رفيع، فالوردة في عنقها كانت كبيرة الحجم والحذاء بقدميها من صنف الكعب العالي أما حقيبة اليد فحدث ولا حرج. فهي حقيبة يد مستطيلة وبحمالة طويلة على الكتف تذكر من مثلي من هاويات السينما العربية القديمة بحقائب يد الفنانة الرائعة فاتن حمامة. ومن لباسها الكلاسيكي بشكل تقليدي خالص تهيأ لي أنها من النساء اللواتي كُنّ يهمنّ عشقاً وولعاً بالفنانات الأنيقات اللواتي انتمين لعصر السينما العربية الذهبي، حيث كانت الأصالة في كل شيء، من أمثال الفنانة الكبيرة شادية، وتهيأ لي أنها كانت تعتلي خشبة المسرح لتشدو بأجمل وأرقِ اغانيها أو لتتمايل كما كانت تفعل سامية جمال.
تهيأ لي أنها من زمن انتهى بريقه وبقيت هي اسيرة فيه حتى تحولت الى امراة محنطة كما الاثار.
أردت أن أغوص في بحر زمانها عبر التجاعيد المرسومة على ملامحها وأن أسبح في عينيها الآيلتين للسقوط في بئر عميق وليل طويل..وأردت أن أعرف كيف كانت وكيف تحولت إلى ما هي عليه في تلك اللحظة؟ أردت ذلك لأفهم كيف نكون وكيف نصبح جميعا بعدما نتحول!!
قالوا أحبت رجلا وخانها ورحل فجنت، وقالوا أن لها ولداً غرق وأنها اكتشفت لغز الحياة فخانتها الحياة نفسها واغتالت عقلها .
قالوا انها مسكونة بمحطة القطار حيث سكنها القطار بغدوه ومجيئه، وبهديره وسكونه، وعندما عقدت صفقة حب مع محطة القطار قتلت هذه الأخيرة عقلها. فهناك بعض المحطات التي لا ترحم من تسكن قلبه!!
وقالوا انها لا ترغب في الرجوع الى بيتها…فمن ينتظر امرأة مجنونة، مسلوبة الروح، منهوبة من كل شيء، ولا تعرف الا الزمن القديم…إنها سعيدة بجنونها!!
أي دهر رماها الى محطة القطار وأي قدر وأي اختيارات تصورت تحت عنفوان الشباب أنها خالدة!!
وآهٍ ثم آهٍ من عمرها القادم!!
لا شك أنها غرقت في الدموع وتحولت الى جداول حفرت الخدود وإلى عيونٍ أكلتها الاوهام وإلى احلام سخرت منها وأوقعتها في خطيئة الحياة واغرتها حتى
الجنون…..فكيف يا ترى سيكون حالها مع عمرها القادم والزمن الآتي
بقلم احسان السباعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق